فصل: ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وخمسمائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة وصل الحجاج إلى منى ولم يتم الحج لأكثر الناس لصدهم عن دخول مكة والطواف والسعي فمن دخل يوم النحر مكة وطاف وسعى كمل حجه ومن تأخر عن ذلك منع دخول مكة لفتنة جرت بين أمير الحاج وأمير مكة‏.‏

كان سببها أن جماعة من عبيد مكة أفسدوا في الحاج بمنى فنفر عليهم بعض أصحاب أمير الحاج فقتلوا منهم جماعة ورجع من سلم إلى مكة وجمعوا جمعًا وأغاروا على جمال الحاج واخذوا منها قريبًا من ألف جمل فنادى أمير الحاج في جنده فركبوا بسلاحهم ووقع القتال بينهم فقتل جماعة ونهب جماعة من الحاج وأهل مكة فرجع أمير الحاج ولم يدخل مكة ولم يقم بالزاهر غير يوم واحد وعاد كثير من الناس رجالة لقلة الجمال ولقوا شدة‏.‏

وممن حج في هذه السنة جدتنا أم أبينا ففاتها الطواف والسعي فاستفتي لها الإمام الشيخ أبو القاسم بن البرري فقال‏:‏ تدوم على ما بقي عليها من إحرامها إلى قابل وتعود إلى مكة فتطوف وتسعى فكمل الحجة الأولى ثم تحرم إحرامًا ثانيًا وتعود إلى عرفات فتقف وترمي الجمار وتطوف وتسعى فتصير لها حجة ثانية فبقيت على إحرامها إلى قابل وحجت وفعلت كما قال فتم حجها الأول والثاني‏.‏

وفيها نزل بخراسان برد كثير عظيم المقدار أواخر نيسان وكان أكثره بجوين ونيسابور وما والاهما فأهلك الغلات ثم جاء بعده مطر كثير دام عشرة أيام‏.‏

وفيها في جمادى الآخرة وقع الحريق ببغداد احترق سوق الطيوريين والدور التي تليه مقابله إلى سوق الصفر الجديد والخان الذي في الرحبة ودكاكين البزورين وغيرها‏.‏

وفيها توفي الكيا الصباحي صاحب الموت مقدم الإسماعيلية وقام ابنه مقامه فأظهر التوبة وأعاد هو ومن معه الصلوات وصيام شهر رمضان وأرسلوا إلى قزوين يطلبون من يصلي بهم ويعلمهم حدود الإسلام فأرسلوا إليهم‏.‏

وفيها في رجب درس شرف الدين يوسف الدمشقي في المدرسة النظامية ببغداد وفيها توفي شجاع الفقيه الحنفي ببغداد وكان مدرسًا بمدرسة أبي حنيفة وكان موته في ذي القعدة‏.‏

وفيها توفي صدقة بن وزير الواعظ‏.‏

وفيها في المحرم توفي الشيخ عدي بن مسافر الزاهد المقيم ببلد الهكارية من أعمال الموصل وهو من الشام من بلد بعلبك فانتقل إلى الموصل وتبعه أهل السواد والجبال بتلك النواحي وأطاعوه وحسنوا الظن فيه وهو مشهور جدًا‏.‏

  ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وخمسمائة

  ذكر وزارة شاور للعاضد بمصر ثم وزارة الضرغام بعده

في هذه السنة في صفر وزر شاور للعاضد لدين الله العلوي صاحب مصر وكان ابتداء أمره ووزارته أنه كان يخدم الصالح بن رزيك ولزمه فأقبل عليه الصالح وولاه الصعيد وهو أكبر الأعمال بعد الوزارة فلما ولي الصعيد ظهرت منه كفاية عظيمة وتقدم زائد واستمال الرعية والمقدمين من العرب وغيرهم فعسر أمره على الصالح ولم يمكنه عزله فاستدام استعماله لئلا يخرج عن طاعته‏.‏

فلما جرح الصالح كان من جملة وصيته لولده العادل‏:‏ إنك لا تغير على شاور فإنني أنا أقوى منك وقد ندمت على استعماله ولم يمكنّي عزله فلا تغيروا ما به فيكون لكم منه ما تكرهون‏.‏

فلما توفي الصالح من جراحته وولي ابنه العادل الوزارة حسن له أهله عزل شاور واستعمال بعضهم مكانه وخوفوه منه إن أقروه على عمله فأرسل إليه بالعزل فجمع جموعًا كثيرة وسار إلى القاهرة بهم فهرب منه العادل ابن الصالح بن زريك فأخذ وقتل فكانت مدة وزارته ووزارة أبيه قبله تسع سنين وشهرًا وأيامًا وصار شاور وزيرًا وتلقب بأمير الجيوش وأخذ أموال بني رزيك وودائعهم وذخائرهم وأخذ منه أيضًا طي والكامل ابنا شاور والمصريين إلى الأتراك‏.‏

ثم إن الضرغام جمع جموعًا كثيرة ونازع شاور بالوزارة في شهر رمضان وظهر أمره وانهزم شاور منه إلى الشام على ما نذكره سنة تسع وخمسين وخمسمائة وصار ضرغام وزيرًا‏.‏

وكان هذه السنة ثلاثة وزراء‏:‏ العادل بن زريك وشاور وضرغام فلما تمكن ضرغام من الوزارة قتل كثيرًا من الوزراء المصريين لتخلو له البلاد من منازع فضعفت الدولة بهذا السبب حتى خرجت البلاد عن أيديهم‏.‏

  ذكر وفاة عبد المؤمن وابنه يوسف

في هذه السنة في العشرين من جمادى الآخرة توفي عبد المؤمن بن علي صاحب بلاد المغرب وإفريقية والأندلس وكان قد سار من مراكش إلى سلا فمرض بها ومات‏.‏

ولما حضره الموت جمع شيوخ الموحدين من أصحابه وقال لهم‏:‏ قد جربت ابني محمدًا فام أره يصلح لهذا الأمر وإنما يصلح له ابني يوسف وهو أولى بها فقدموه لها ووصاهم بها وبايعوه ودعي بأمير المؤمنين وكتما موت عبد المؤمن وحمل فمن سلا في محفة بصورة أنه مريض إلى أن وصل إلى مراكش‏.‏

وكان ابنه أبو حفص في تلك المدة حاجبًا لأبيه فبقي مع أخيه على مثل حاله مع أبيه يخرج فيقول للناس‏:‏ أمير المؤمنين أمر بكذا ويوسف لم يقعد مقعد أبيه إلى أن كملت المبايعة له في جميع البلاد واستقرت قواعد الأمور له ثم أظهر موت أبيه عبد المؤمن فكانت ولايته ثلاثًا وثلاثين سنة وشهورًا وكان عاقلًا حازمًا سديد الرأي حسن السياسة للأمور كثير البذل للأموال إلا أنه كان كثير السفك لدماء المسلمين على الذنب الصغير‏.‏

وكان يعظم أمر الدين ويقويه ويلزم الناس في سائر بلاده بالصلاة ومن رؤي وقت الصلاة غير تصل قتل وجمع الناس على مذهب مالك في الفروع وعلى مذهب أبي الحسن الأشعري في الأصول وكان الغالب على مجلسه أهل العلم والدين المرجع إليهم والكلام معهم ولهم‏.‏

 ذكر ملك المؤيد أعمال قومس

في هذه السنة سار المؤيد أي أبه صاحب نيسابور إلى بلاد قومس فملك بسطام ودامغان واسنناب بقومس مملوكه تنكز فأقام تنكز بمدينة بسطام فجرى بين تنكز وبين شام مازندران اختلاف أدى إلى الحرب فجمع كل منهما عسكره والتقوا أوائل ذي الحجة في هذه السنة واقتتلوا فانهزم عسكر مازندران وأخذت أسلابهم وقتل منه طائفة كبيرة‏.‏

ولما ملك المؤيد بلاد قومس أرسل إليه السلطان أرسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه خلعًا نفيسة وألوية معقودة وهدية جليلة وأمره أن يهتم باستيعاب بلاد خراسان ويتولى ذلك أجمع وأن يخطب له فلبس المؤيد الخلع فخطب له في البلاد التي هي بيده‏.‏

وكان السبب في هذا أتابك شمس الدين إيلدكز فانه كان هو الذي يحكم في مملكة أرسلان وليس لأرسلان غير الاسم وكان بين إيلدكز وبين المؤيد مودة عظيمة ذكرناها عند قتل المؤيد فلما أطاع المؤيد السلطان أرسلان خطب له ببلاده مهي بلاد قومس ونيسابور وطوس وأعمال نيسابور جميعها ومن نسا إلى طبس كنكلي وكان يخطب لنفسه بعد أرسلان وكانت الخطبة في جرجان ودهستان لخوارزم شاه أيل أرسلان بن أتسز وبعده للأمير إيثاق وكانت الخطبة في مرو وبلخ وهراة وسرخس وهذه البلاد بيد الغز إلا هراة فكانت بيد الأمير ايتكين وهو مسالم للغز فكانوا يخطبون للسلطان سنجر فيقولون‏:‏ اللهم اغفر للسلطان السعيد المبارك على المسلمين

  ذكر قتل الغز ملك الغور

في هذه السنة في رجب قتل سيف الدين محمد بن الحسين الغور ملك الغور قتله الغز‏.‏

وسبب ذلك أنه جمع عساكره وحشد فأكثر وسار في بلاد الغور يريد الغز وهم ببلخ واجتمعوا وتقدموا إليه فاتفق أن ملك الغور خرج من معسكره في جماعة من خاصته جريدة فسمع به أمراء الغز فساروا يطلبونه مجدين قبل أن يعود إلى معسكره فأوقعوا به فقاتلهم أشد قتال رآه الناس فقتل ومعه نفر ممن كانوا معه واسر طائفة وهربت طائفة فلحقوا بمعسكرهم وعادوا إلى بلادهم منهزمين لا يقف الأب على ابنه ولا الولد على أخيه وتركوا كل ما معهم بحاله ونجوا بنفوسهم‏.‏

فكان عمر ملك الغور لما قتل عشرين سنة وكان عادلًا حسن السيرة فمن عدله وخوفه عاقبة الظلم انه حاصر أهل هراة فلما ملكها أراد عسكره أن ينهبوها فنزل على درب المدينة وأحضر الأموال والثياب فأعطى جميع عسكره منها وقال‏:‏ هذا خير لكم من أن تنهبوا أموال المسلمين وتسخطوا الله تعالى فإن الملك يبقى على الكفر ولا يبقى على الظلم ولما قتل عاد الغز إلى بلخ ومرو وقد غنموا من العسكر الغوري الشيء الكثير لأن أهله تركوه ونجوا‏.‏

في هذه السنة انهزم نور الدين محمود بن زنكي من الفرنج تحت حصن الأكراد وهي الوقعة المعروفة بالبقيعة وسببها أن نور الدين جمع عساكره دخل بلاد الفرنج ونزل في البقيعة تحت حصن الأكراد محاصرًا له عازما على قصد طرابلس ومحاصرتها فبينما الناس يومًا في خيامهم وسط النهار لم يرعهم إلا ظهور صلبان الفرنج من وراء الجبل الذي عليه حصن الأكراد وذلك أن الفرنج اجتمعوا واتفق رأيهم على كبسة المسلمين نهارًا فإنهم يكونوا آمنين فركبوا من وقتهم ولم يتوقفوا حتى يجمعوا عساكرهم وساروا مجدين فلم يشعر بذلك المسلمين إلا وقد قربوا منهم فأرادوا منعهم فلم يطيقوا ذلك فأرسلوا إلى نور الدين يعرفونه الحال فرهقهم الفرنج بالحملة فلم يثبت المسلمون وعادوا يطلبون معسكر المسلمين والفرنج في ظهورهم فوصلوا معًا إلى العسكر النوري فلم يتمكن المسلمون من ركوب الخيل وأخذ السلاح إلا وقد خالطوهم فأكثروا القتل والأسر‏.‏

وكان أشدهم على المسلمين الدوقس الرومي فإنه كان قد خرج من بلاده إلى الساحل في جمع كثير من الروم فقاتلوا محتسبين في زعمهم فلم يبقوا على أحد وقصدوا خيمة نور الدين وقد ركب فيها فرسه ونجا بنفسه ولسرعته ركب الفرس والشبحة في رجله فنزل إنسان كردي قطعها فنجا نور الدين وقتل الكردي فأحسن نور الدين إلى مخلفيه ووقف عليهم الوقوف‏.‏

ونزل نور الدين على بحيرة قدس بالقرب من حمص وبينه وبين المعركة أربعة فراسخ وتلاحق به من سلم من العسكر وقال له بعضهم ليس من الرأي أن تقيم هاهنا فإن الفرنج ربما حملهم الطمع على المجيء إلينا فنؤخذ ونحن على هذه الحال فوبخه وأسكته وقال‏:‏ إذا كان معي ألف فارس لقيتهم ولا أبالي بهم ووالله لا أستظل بسقف حتى آخذ بثأري وثأر الإسلام ثم أرسل إلى حلب ودمشق وأحضر الأموال والثياب والخيام والسلاح والخيل فأعطى اللباس عوض ما أخذ منهم جميعه بقولهم فعاد العسكر كأن لم تصبه هزيمة وكل من قتل أعطى أقطاعه لأولاده‏.‏

وأما الفرنج فإنهم كانوا عازمين على قصد حمص بعد الهزيمة لأنها أقرب البلاد إليهم فلما بلغهم نزول نور الدين بينها وبينهم قالوا‏:‏ لم يفعل هذا إلا وعنده قوة يمنعنا بها‏.‏

ولما رأى أصحاب نور الدين كثرة خرجه قال له بعضهم‏:‏ إن لك في بلادك إدرارات وصدقات كثيرة على الفقهاء والفقراء والصوفية والقراء وغيرهم فلو استعنت بها في هذا الوقت لكان أصلح فغضب من ذلك وقال‏:‏ والله إني لا أرجو النصر إلا بأولئك فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم كيف أقطع صلات قوم يدافعون عني وأنا نائم على فراشي بسهام لا تخطئ وأصرفها إلى من لا يقاتل عني إلا إذا رآني بسهام قد تصيب وقد تخطئ وهؤلاء القوم لهم نصيب في بيت المال كيف يحل لي أن أعطيه غيرهم ثم إن الفرنج راسلوا نور الدين يطلبون منه الصلح فلم يجبهم وتركوا عند حصن الأكراد من يحميه وعادوا إلى بلادهم‏.‏

  ذكر إجلاء بني أسد من العراق

في هذه السنة أمر الخليفة المستنجد بالله بإهلاك بني أسد أهل الحلة المزيدية لما ظهر من فسادهم ولما كان في نفس الخليفة منهم من مساعدتهم السلطان محمدًا لما حصر بغداد فأمر يزدن بن قماج بقتالهم وإجلائهم عن البلاد وكانوا منبسطين في البطائح فلا يقدر عليهم فتوجه يزدن إليهم وجمع عساكر كثيرة من راجل وفارس وأرسل إلى ابن معروف مقدم المنتفق وهو بأرض البصرة فجاء في خلق كثير فحصرهم وسد عليهم الماء وصابرهم مدة فأرسل الخليفة إلى يزدن يعتب عليه ويعجزه وينسبه إلى موافقتهم في التشيع وكان يزدن يتشيع فجد هو وابن معروف في قتالهم والتضييق عليهم وسد مسالكهم في الماء فاستسلموا حينئذ فقتل منهم أربعة آلاف قتيل ونادى فيمن بقي‏:‏ من وجد بعد هذا في المزيدية فقد حل دمه فتفرقوا في البلاد ولم يبق منهم في العراق من يعرف وسلمت بطائحهم وبلادهم إلى ابن معروف‏.‏

  ذكر عدة حوادث

وفيها في رجب توفي سديد الدولة أبو عبد الله مجمد بن عبد الكريم بن إبراهيم بن عبد الكريم المعروف بابن الأنباري كاتب الإنشاء بديوان الخليفة وكان فاضلًا أديبًا ذا تقدم كثير عند الخلفاء والسلاطين وخدم من سنة ثلاثين وخمسمائة إلى الآن في ديوان الخلافة وعاش حتى قارب تسعين سنة‏.‏

وتوفي في رمضان هبة الله بن الفضل بن عبد العزيز بن محمد أبو القاسم المتوثي سمع الحديث وهو من الشعراء المشهورين إلا أنه كثير الهجو ومن شعره‏:‏ يا من هجرت ولا تبالي هل ترجع دولة الوصال هل أطمع يا عذاب قلبي أن ينعم في هواك بالي الطرف كما عهدت بالي والجسم كما ترين بال ما ضرك أن تعلليني في الوصل بموعد المحال أهواك وأنت حظ غيري يا قاتلتي فما احتيالي وهي أكثر من هذا‏.‏

في هذه السنة في جمادى الأولى سير نور الدين محمود بن زنكي عسكرًا كثيرًا إلى مصر وجعل عليهم الأمير أسد الدين شيركوه بن شاذي وهو مقدم عسكره وأكبر أمراء دولته وأشجعهم وسنذكر سنة أربع وستين سبب اتصاله بنور الدين وعلو شأنه عنده إن شاء الله تعالى‏.‏

وكان سبب إرسال هذا الجيش أن شاور وزير العاضد لدين الله العلوي صاحب مصر نازعه في الوزارة ضرغام وغلب عليها فهرب شاور منه إلى الشام ملتجئًا إلى نور الدين ومستجيرًا به فأكرم مثواه وأحسن إليه وأنعم عليه وكان وصوله في ربيع الأول من السنة وطلب منه إرسال العساكر معه إلى مصر ليعود إلى منصبه ويكون لنور الدين ثلث دخل البلاد بعد إقطاعات العسكر ويكون شيركوه مقيمًا بعساكره في مصر ويتصرف هو بأمر نور الدين واختياره فبقي نور الدين يقدم إلى هذا العرض رجلًا ويؤخر أخرى فتارة يحمله رعاية لقصد شاور بابه وطلب الزيادة من الملك والتقوي على الفرنج وتارة يمنعه خطر الطريق وأن الفرنج فيه وتخوف أن شاور إن استقرت قاعدته ربما لا يفي‏.‏

ثم قوى عزمه على إرسال الجيوش فتقدم بتجهيزها وإزالة عللها وكان هوى أسد الدين في ذلك وعنده من الشجاعة وقوة النفس ما لا يبالي بمخافة فتجهز وساروا جميعًا وشاور في صحبتهم في جمادى الأولى من سنة تسع وخمسين وتقدم نور الدين إلى شيركوه أن يعيد شاور إلى منصبه وينتقم له ممن نازعه فيه‏.‏

وسار نور الدين إلى طرف بلاد الفرنج مما يلي دمشق بعساكره ليمنع الفرنج من التعرض لأسد الدين ومن معه فكان قصارى الفرنج حفظ بلادهم من نور الدين ووصل أسد الدين ومن معه من العساكر إلى مدينة بلبيس فخرج إليهم ناصر الدين أخو ضرغام بعسكر المصريين ولقيهم فانهزم وعاد إلى القاهرة مهزومًا‏.‏

ووصل أسد الدين فنزل على القاهرة أواخر جمادى الآخرة فخرج ضرغام من القاهرة سلخ الشهر فقتل عند مشهد السيدة نفيسة وبقي يومين ثم حمل ودفن بالقرافة وقتل أخوه فارس المسلمين وخلع عن شاور مستهل رجب وأعيد إلى الوزارة وتمكن منها وأقام أسد الدين بظاهر القاهرة فغدر به شاور وعاد كما كان قرره لنور الدين من البلاد المصرية ولأسد الدين أيضًا وأرسل إليه يأمره بالعود إلى الشام فأعاد الجواب بالامتناع وطلب ما كان قد استقر بينهم فلم يجبه شاور إليه فلما رأى ذلك أرسل نوابه فتسلموا مدينة بلبيس وحكم على البلاد الشرقية فأرسل شاور إلى الفرنج يستمدهم ويخوفهم من نور الدين إن ملك مصر‏.‏

وكان الفرنج قد أيقنوا بالهلاك إن تم ملكه لها فلما أرسل شاور يطلب منهم أن يساعدوه على إخراج أسد الدين من البلاد جاءهم فرج لم يحتسبوه وسارعوا إلى تلبية دعوته ونصرته وطمعوا في ملك الديار المصرية وكان قد بذل لهم مالًا على المسير إليه وتجهزوا وساروا فلما بلغ نور الدين ذلك سار بعساكره إلى أطراف بلادهم ليمتنعوا عن المسير فلم يمنعهم ذلك لعلمهم أن الخطر في مقامهم إذا ملك أسد الدين مصر أشد فتركوا في بلادهم من يحفظها وسار ملك القدس في الباقين إلى مصر‏.‏

وكان قد وصل إلى الساحل جمع كثير من الفرنج في البحر لزيارة البيت المقدس فاستعان بهم الفرنج الساحلية فأعانوهم فسار بعضهم معهم وأقام بعضهم في البلاد لحفظها فلما قارب الفرنج مصر فارقها أسد الدين وقصد مدينة بلبيس فأقام بها هو وعسكره وجعلها له ظهرًا يتحصن به فاجتمعت العساكر المصرية والفرنج ونازلوا أسد الدين شيركوه بمدينة بلبيس وحصروه بها ثلاثة أشهر وهو ممتنع بها مع أن سورها قصير جدًا وليس لها خندق ولا فصيل يحميها وهو يغاديهم القتال ويراوحهم فلم يبلغوا منه غرضًا ولا نالوا منه شيئًا‏.‏

فبينما هم كذلك إذ أتاهم الخبر بهزيمة الفرنج على حارم وملك نور الدين حارم ومسيره إلى بانياس على ما نذكره عن شاء الله تعالى فحينئذ سقط في أيديهم وأرادوا العودة إلى بلادهم ليحفظوها فراسلوا أسد الدين في الصلح والعد إلى الشام ومفارقة مصر وتسليم ما بيده منها إلى المصريين فأجابهم إلى ذلك لأنه لم يعلم ما فعله نور الدين بالشام بالفرنج ولأن الأقوات والذخائر قلت عليهن وخرج من بلبيس في ذي الحجة‏.‏

فحدثني من رأى أسد الدين حين خرج من بلبيس قال‏:‏ أخرج أصحابه بين يديه وبقي في آخرهم وبيده لت من حديد يحمي ساقتهم والمسلمون والفرنج ينظرون إليه‏.‏

قال‏:‏ فأتاه فرنجي من الغرباء الذين خرجوا من البحر فقال له‏:‏ أما تخاف أن يغدر بك هؤلاء المصريون والفرنج وقد أحاطوا بك وبأصحابك ولا يبقى لكم بقية فقال شيركوه‏:‏ يا ليتهم علوه حتى كنت ترى ما أفعله كنت والله أضع السيف فلا يقتل منا رجل حتى يقتل منهم رجالًا وحينئذ يقصدهم الملك العادل نور الدين وقد ضعفوا وفني شجعانهم فنملك بلادهم ويهلك من بقي منهم والله لو أطاعني هؤلاء لخرجت إليكم من أول يوم ولكنهم امتنعوا‏.‏

فصلب على وجهه وقال‏:‏ كنا نعجب من فرنج هذه البلاد ومبالغتهم في صفتك وخوفهم منك والآن فقد عذرناهم ثم رجع عنه‏.‏

وسار شيركوه إلى الشام فوصل سالمًا وكان الفرنج قد وضعوا له على مضيق في الطريق رصدًا ليأخذوه أو ينالوا منه ظفرًا فعلم بهم فعاد عن ذلك الطريق ففيه يقول عمارة التميمي‏:‏ أخذتم على الإفرنج كل ثنية وقلتم لأيدي الخيل مري على مري ولفظة مري في أخر البيت الأول اسم ملك الفرنج‏.‏

  ذكر هزيمة الفرنج وفتح حارم

في هذه السنة في شهر رمضان فتح نور الدين محمود زنكي قلعة حارم من الفرنج وسبب ذلك أن نور الدين لما عاد منهزمًا من البقيعة تحت حصن الأكراد كما ذكرناه من قبل فرق الأموال والسلاح وغير ذلك من الآلات على ما تقدم فعاد العسكر كأنهم لم يصابوا وأخذوا في الاستعداد للجهاد والأخذ بثأره‏.‏

واتفق مسير بعض الفرنج مع ملكهم في مصر كما ذكرناه فأراد أن يقصد بلادهم ليعودوا عن مصر فأرسل إلى أخيه قطب الدين مودود صاحب الموصل وديار الجزيرة وإلى فخر الدين قرا أرسلان صاحب حصن كيفا وإلى نجم الدين ألبي صاحب ماردين وغيرهم من أصحاب الأطراف يستنجدهم فأما قطب الدين فإنه جمع عسكره وسار مجدًا وفي مقدمته زين الدين علي أمير جيشه وأما فخر الدين صاحب الحصن فبلغني عنه أنه قال له ندماؤه وخواصه‏:‏ على أي شيء عزمت فقال‏:‏ فقال‏:‏ على القعود فإن نور الدين قد تحشف من كثرة الصوم والصلاة وهو يلقي نفسه والناس معه في المهالك فكلهم وافقه على هذا الرأي فلما كان الغد أمر بالتجهز للغزاة فقال له أولئك‏:‏ ما عدا مما بدا فارقناك أمس على حالة فنرى اليوم ضدها فقال‏:‏ إن نور الدين قد سلك معي طريقًا إن لم أنجده خرج أهل بلادي عن طاعتي واخرجوا البلاد عن يدي فإنه قد كاتب زهادها وعبادها والمنقطعين عن الدنيا فلم يذكر لهم ما لقي المسلمون من الفرنج وما نالهم من القتل والأسر ويستمد نهم الدعاء ويطلب أن يحثوا المسلمين على الغزاة فقد قعد كل واحد من اولئك ومعه أصحابه وأتباعه وهم يقرؤون كتب نور الدين ويبكون ويلعنونني ويدعون علي فلا بد من المسير إليه ثم تجهز وسار بنفسه‏.‏

وأما نجم الدين فإنه سير عسكرًا فلما اجتمعت العساكر سار نحو حارم فحصرها ونصب عليها المجانيق وتابع الزحف إليها فاجتمع من بقي بالساحل من الفرنج فجاؤوا في حدهم وحديدهم وملوكهم وفرسانهم وقسيسهم ورهبانهم وأقبلوا إليه من كل حدب ينسلون وكان المقدم عليهم البرنس بيمند صاحب أنطاكية وقمص صاحب طرابلس وأعمالها وابن جوسلين وهو من مشاهير الفرنج والدوك وهو مقدم كبير من الروم وجمعوا الفارس والراجل فلما قاربوه رحل عن حارم إلى أرتاح طمعًا أن يتبعوه فيتمكن منهم لبعدهم عن بلادهم إذا لقوه فساروا فنزلوا على غمر ثم علموا عجزهم عن لقائه فعادوا إلى حارم فلما عادوا تبعهم نور الدين في أبطال المسلمين على تعبئة الحرب‏.‏

فلما تقاربوا اصطفوا للقتال فبدأ الفرنج بالحملة على ميمنة المسلمين وفيها عسكر حلب وصاحب الحصن فانهزم المسلمون فيها وتبعهم الفرنج فقيل كانت تلك الهزيمة من الميمنة على اتفاق ورأي دبروه وهو أن يتبعهم الفرنج فيبعدوا عن راجلهم فيميل عليهم من بقي من المسلمين بالسيوف فيقتلوهم فإذا عاد فرسانهم لم يلقوا راجلًا يلجأون إليه ولا وزرًا يعتمدون عليه ويعود المنهزمون في أثارهم فيأخذهم المسلمون من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم فكان الأمر على ما دبروه‏:‏ فإن الفرنج لما تبعوا المنهزمين عطف زين الدين علي في عسكر الموصل على راجل الفرنج فأفناهم قتلًا وأسرًا وعاد خيالتهم ولم يمعنوا في الطلب خوفًا على راجلهم فعاد المنهزمون في آثارهم فلما وصل الفرنج رأوا رجالهم قتلى وأسرى فسقط في أيديهم ورأوا أنهم قد هلكوا وبقوا في الوسط قد أحدق بهم المسلمون من كل جانب فاشتدت الحرب وقامت على ساق وكثر القتل في الفرنج وتمت عليهم الهزيمة فعدل حينئذ المسلمون من القتل إلى الأسر فأسروا ما لا يحد وفي جملة الأسرى صاحب أنطاكية والقمص صاحب طرابلس وكان شيطان الفرنج وأشدهم شكيمة على المسلمين والدوك مقدم الروم وابن جوسلين وكانت عدة القتلى تزيد على عشرة آلاف قتيل‏.‏

وأشار المسلمون على نور الدين بالمسير إلى أنطاكية وتملكها لخلوها من حام يحميها ومقاتل يذب عنها فلم يفعلن وقال‏:‏ أما المدينة فأمرها سهل وأما القلعة فمنيعة وربما سلموها إلى ملك الروم لأن صاحبها ابن أخيه ومجاوره بيمند أحب إلي من مجاورة صاحب قسطنطينية وبث السرايا في تلك الأعمال فنهبوها وأسروا أهلها وقتلوهم ثم إنه فادى بيمند البرنس صاحب أنطاكية بمال جزيل وأسرى من المسلمين كثيرة أطلقهم‏.‏

 ذكر ملك نور الدين قلعة بانياس من الفرنج أيضًا

في ذي الحجة من هذه السنة فتح نور الدين محمود قلعة بانياس وهي بالقرب من دمشق وكانت بيد الفرنج من سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ولما فتح حارم أذن لعسكر الموصل وديار بكر بالعود إلى بلادهم وأظهر أنه يريد طبرية فجعل من بقي من الفرنج همتهم حفظها وتقويتها فسار محمود إلى بانياس لعلمه بقلة من فيها من الحماة الممانعين عنها ونازلها وضيق عليها وقاتلها وكان في جملة عسكره أخوه نصرة الدين أمير أميران فأصابه سهم فأذهب إحدى عينيه فلما رآه نور الدين قال له‏:‏ لو كشف لك عن الآجر الذي أعد لك لتمنيت ذهاب الأخرى وجد في حصارها فسمع الفرنج فجمعوا فلم تتكامل عدتهم حتى فتحها على أن الفرنج كانوا قد ضعفوا بقتل رجالهم بحارم وأسرهم فملك القلعة وملأها ذخائر وعدة ورجالًا ووصل خبر ملك حارم وحصر بانياس إلى الفرنج بمصر فصالحوا شيركوه وعادوا ليدركوا بانياس فلم يصلوا إلا وقد ملكها ولما عاد منها إلى دمشق كان بيده خاتم بفص ياقوت من أحسن الجوهر وكان يسمى الجبل لكبره وحسنه فسقط من يده في شعاري بانياس وهي كثيرة الأشجار ملتفة الأغصان فلما أبعد عن المكان الذي ضاع فيه علم به فأعاد بعض أصحابه في طلبه ودلهم على المكان الذي كان آخر عهده به فيه وقال‏:‏ أظن هناك سقط فعادوا إليه فوجدوه فقال بعض الشعراء الشاميين أظنه ابن منير يمدحه ويهنئه بهذه الغزاة ويذكر الجبل الياقوت‏:‏ إن يمتر الشكاك فيك بأنك ال مهدي مطفي جمرة الدجال فلعودة الجبل الذي أضللته بالأمس بين غياطل وجبال لم يعطها إلا سليمان وقد الربا بموشك الأعجال رحرحى لسرير ملكك إنه كسريره على كل حد عال فلو البحار السبعة استهوينه وأمرتهن قذفنه في الحال ولما فتح الحصن كان معه ولد معين الدين أنز الذي سلم بانياس إلى الفرنج فقال له‏:‏ للمسلمين بهذا الفتح فرحة واحدة ولك فرحتان فقال‏:‏ كيف ذاك قال‏:‏ لأن اليوم برد الله جلد والدك

  ذكر أخذ الأتراك غزنة من ملكشاه وعوده إليها

في هذه السنة قصد بلاد غزنة الأتراك المعروفون بغز ونهبوها وخربوها وقصدوا غزنة وبها صاحبها ملكشاه بن خسروشاه المحمودي فعلم أنه لا طاقة له بهم ففارقها وسار إلى مدينة لهاور وملك الغز مدينة غزنة وكان القيم بأمرهم أمير اسمه زنكي بن علي بن خليفة الشيباني ثم إن صاحبها ملكشاه جمع وعاد إلى غزنة ففارقها زنكي وعاد ملكها ملكشاه ودخلهافي جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين وخمسمائة وتمكن من دار ملكه‏.‏